مداد – أمينة قويدر
تزامنا مع ليلة القدر (ليلة 27) من شهر رمضان الكريم، نظم مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، مساء السبت 8 ماي 2021، ندوة افتراضية بعنوان: "دور نزول الوحي في التغيير الاجتماعي: مكافحة الفساد والتطرف نموذجا".
وأثث هذه الندوة ثلة من أهل العلم والوجوه البارزة في تونس، وهم كل من الأستاذ عبد الفتاح مورو، الدكتور عفيف الصبابطي، الدكتور محمد الشتيوي، في حين تولى مهمة تسيير النقاش الصحفي صلاح الدين الجورشي.
وبين الأساتذة، من خلال هذه الندوة، أن الوحي الذي نزل على النبي محمد صل الله عليه وسلم من الله تعالى، ليس مجرد مواعظ وحكم نظرية بل فيها دعوة الناس جميعا إلى الفاعلية والتغيير في المجتمع، وكان الرسول (صل) نموذجا في ذلك.
وأكدوا أيضا أن الرسالة المحمدية جوهرها اجتماعي بالأساس، وهي منهاج تغيير موجه للإنسانية جمعاء وليس قوم بعينهم، كما أنها نهت عن جميع السلوكيات السلبية والمضرة بأمر من الله تعالى كالفساد والتطرف.
بعد 15 قرنا من نزول الوحي.. أسئلة محوريّة مازالت تدور حول الإسلام
لدى افتتاحه الندوة الافتراضية، قال الأستاذ صلاح الدين الجورشي إن المركز سعى من خلال هذه الندوة إلى تعميق النقاش حول مسألة لها مكانة خاصة لدى التونسيين والمسلمين بصفة عامة، عن طريق أهل العلم والمعرفة.
وبعد 15 قرنا من نزول الوحي، أشار الجورشي إلى أن النقاش مازال متواصلا حول أسئلة محورية في الإسلام من قبيل: "ماذا فعل الإسلام تحديدا؟ وماذا فعل الإسلام في عمق المسلمين؟ وكيف حولهم إلى قوة ضاربة؟ وكيف جعل منهم أمم مدمجين في إطار جغراسياسي معين؟ وكيف أحدث هذا الإطار منعرجا في التاريخ؟
وأضاف الجورشي متسائلا:" كيف تم الانتقال من النص (الوحي) إلى إحداث هذا التغيير والمنعرج؟ وماذا ترتب عنه؟ وحتى نفهم أن الإسلام والإيمان ليس الشهادة فقط وتأدية العبادات.. ماهو إذا المحرك الأساسي والقوة الدافعة التي جعلت من هذا الدين تحول نوعي يحصل في التاريخ البشري؟
وأشار الجورشي، من جهة أخرى، إلى أن مركز دراسة الإسلام والديمقراطية أراد أن يستثمر ليلة 27 من رمضان/ ليلة القدر، وأهميتها في فكرنا ومعتقداتنا لكي يؤكد على مسألة البعد الاجتماعي التي تضاءلت وغابت لدى الفكر الإسلامي الحديث، ولدى جزء كبير من خطبائنا وعلمائنا ومشايخنا، مشيرا إلى أن هناك انقلاب حصل في مستوى التعاطي والتعامل مع القضايا الإسلامية وقضايا المجتمع والإنسان.
وعندما نتحدث عن الإنسان، بين الجورشي أنه لابد أن نفكر في الإنسان المجرّد وليس الإنسان المؤمن والمسلم فقط، فالمسلم له أولوياته وقناعاته وله علاقاته التي يجب أن يبنيها ولكن المقصد الأساسي والكبير من الإسلام هو أن يصل إلى جوهر الإنسان وأن يسوّي بينه وبين بقية مكونات الإنسانية مهما كان لونها وجنسيتها.
"الوحي.. أوّل رسالة تخاطب الإنسانية جمعاء"
قال الأستاذ عبد الفتاح مورو إن ليلة القدر ليلة مباركة وجميع المسلمين متعلقين بها، وهي تمثل ذكرى منّة من منن الله تعالى تنزّل بها على خلقه ليهديهم إلى صراط مستقيم.
وأضاف الأستاذ مورو أن الإنسان الذي أنزله الله تعالى إلى الأرض أنزله بصك بيده وهو صكّ الاختيار والمسؤولية، وقد نزّل ليعمّر الكون تحت عنوان "إني أختار، وإنّي مسؤول عن نفسي، وعن خياراتي ونتائجها"، لكن تبين أن هذا الإنسان كان دائما يتعرّض إلى مطبات عند ممارسته لمهامه في خلافة الله فوق الأرض سببها انعدام المرجعية وضياع الطريق وخضوع لشهوات نفسه.
ولهذا السبب، أوضح مورو إن الله تعالى أيّد هذا الانسان بوحي سماوي. ففي كل مرحلة من مراحل الإنسانية، يرسل الله تعالى نبيا يهدي الناس إلى الطريق المستقيم، ينير لهم طريقهم ويقدم لهم خريطة إذا اتبعوها وصلوا الأهداف المطلوبة منهم.
وأشار إلى أن آخر رسالة كانت رسالة النبي محمد صل الله عليه وسلم، التي تميزت بكونها، ولأوّل مرة، تخاطب الإنسانية جميعا "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) الأعراف.
"وذلك على عكس الديانات والرسالات السابقة التي كانت رسالات قومية، وبالتالي فإن هذا الدين يخاطب الناس جميعا بكل فئاتهم وألوانهم، وجمعهم على قيم إنسانية لا يختلف فيها اثنان"، وفق تعبيره.
"رسالة جامعة لشؤون الناس.. ومنهج اجتماعي للتغيير في الأرض"
من جهة أخرى، أشار الأستاذ مورو إلى أن هذا الدين جاء جامعا لشؤون الحياة جميعا، يعدّ الإنسان لآخرته لكنه يهيّئه أيضا أن يكون فردا نافعا في مجتمعه. ولهذا الاعتبار كان لابد من سن طريق سلوك لهذا الإنسان، قائم على تذكيره بمجموعة من القيم التي لا تتبدل وجاءت بمنهج إصلاحي.
وبين أن الرسول محمد (صل) الذي نزل عليه الوحي، في هذه الليلة، علمنا أن هذا الدين في تنزّله الأخير سيكون آخر خلاصة لتعليمات السماء إلى الأرض ولن يبعث نبي بعده، وترك أمر المحافظة على هذه القيم إلى البشر لتكريسها وتحويلها إلى واقع.
وأضاف: "جميعنا يعلم أن الإنسانية شهدت نقلة نوعية بقدوم الإسلام، فضلا عن العرب أنفسهم الذين كانوا منسيين ولا يشاركون في تيار الحضارة، وجدوا أنفسهم في ظرف قليل من الزمن في مقدمة العطاء الحضاري، من ذلك التقدم العلمي والعسكري، وما أحدثه من تغيير كبير في أذهان الناس.
وأوضح الأستاذ أن هذا التغيير قام على أساس تلاقي 3 عناصر:
- منهج التغيير: أي أن الإسلام جاء بمنهج للتغيير، أي أنه لم يأتي كمجموعة مواعظ تتعلق بعواطف الإنسان وغرائزه، وإنما جاء بمنهج.
- القائد: أي أن هذا المنهج جاء معه قائد يحوله إلى تمشي عملي.
- حراسة المنهج: أي أن أمر حراسة هذا المنهج وكّل إلى الأمة الإسلامية التي أصبحت عنصر إيجابي في التغيير.
وبتلاقي هذه العناصر الثلاثة، بين الأستاذ عبد الفتاح مورو أنه أمكن للإسلام أن يكون آلية تغيير. كما قام هذا المنهج على أساس اعتبار أن كل تغيير يجب أن يكون نابعا من إرادة الإنسان، وليس خاضعا لسلطة أجنبية تفرض عليه ذلك، ولذلك بدأنا بعبادات الموكول فيها للإنسان أن يستجيب لأمر ربه، وليس خاضعا في ذلك إلى تعليمات، أي اندفاع ذاتي، والتزام بالمنهج وسعي إلى التغيير في الأرض.
وأشار في ذات السياق إلى أن هذا المنهج انتقل بعد ذلك إلى منهج اجتماعي لأن الرسول (صل) حرص على أن يكون المؤمنون برسالته قادرين على تغيير ما حولهم في المجتمع.
" وبالتالي هو ليس منهج لاهوتي متصل بالله تعالى فقط، أي ليس عبادة الله في صفاته فقط بل نعبد الله تعالى في واقعنا الاجتماعي وفي تغييره، ولذلك ركز الرسول على التراحم بين المسلمين، التكافل، الأخوة الإسلامية، عدم الغش، رفض الرشوة، الابتعاد عن الفساد، الابتعاد عن التطرف والتحلي بالتسامح، وأكد أن العبادات لا تكتمل إذا ضيعنا حقوق الفرد في المجتمع".
وأكّد عبد الفتاح مورو أن الإنسان هو هدف التغيير، والمنهج الذي جاء به الإسلام قائم على الاستقراء، أي استعمال العقل لتحقيق مصلحة الإنسان بواسطة الإنسان.
" الألوهية في الإسلام.. المنبع لمنظومة القيم الراقية"
من جهته، ذكّر الدكتور عفيف الصبابطي، إن أول ما نزل من القرآن الكريم هو آيات من سورة العلق "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ"، في حين كان آخر ما نزل من القرآن آيات من سورة البقرة " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ".
وعندما نستعرض بداية نزول القرآن ونهايته، بين الدكتور إنه ندرك أن الرحلة استمرت 23 عاما. هذه المدة الطويلة التي ظل فيها القرآن ينزل من السماء، لا شك أنه أحدث تغييرا.
وأكد أن هذا التغيير الذي أحدثه تغيير عظيم، وفيه ردّ ضمني على بعض الأطروحات التي كانت تردد عكس ذلك. فمثلا يقولون أن العرب عرفوا الحجّ و كانوا يطوفون بالكعبة، فجاء الإسلام ودعاهم إلى شعيرة الحجّ وإلى الطواف بالكعبة، لكن الذي يتأمّل ويدرس تفاصيل الوحي والأحداث التي وقعت قبل نزوله وأثره في هذه المدة ( 23 عاما) يدرك ويلامس أبعاد هذا التغيير الشامل الذي لم يدع جانبا من الجوانب النظرية والعملية، الفردية، الأسرية والاجتماعية إلا أحدث فيها تغييرا بعيد المدى.
وأشار إلى أن التغيير الذي حدث في عهد الرسالة المحمدية، بدأ من عنصر جوهري كان عاملا من عوامل التخلف، ونشر العقلية الخرافية، والظلم الاجتماعي، والتفاوت الطبقي والعبودية، وهو فكرة الألوهية.
وأوضح أن هذه الألوهية كانت أصنام جوفاء لا تتكلم، لا تهدي، لا ترشد، لا تعطي قيما ومبادئا، فإذا بفكرة الألوهية في الإسلام تصبح هي المنبع لمنظومة القيم الراقية مثل قيمة العلم والعدل والرحمة، والتسامح ورفض الفساد. وهذه المعاني هي التي أكد عليها القرآن، فأصبح الإنسان لما يتحدث عن الألوهية يتحدث عن استدلال عقلي ومنطقي.
وأكد أن محبة الله تعني أن نحبّه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أي أننا إذا أحببنا الله بهذه الطريقة فإننا سنحب المعاني التي تتضمنها ومن ثمة أصبحت العقيدة مفجرا لطاقات خيرّة في الإنسان، فأصبح يبحث ويسعى في الأرض رحمة وعدلا، اقتداء بصفات الله تعالى.
" دعوة الدولة إلى الاهتمام بالجوانب الاجتماعية والالتصاق بحياة الناس "
من جانبه، أكد الدكتور محمد الشتيوي الدور الأساسي للوحي في التغيير الاجتماعي، ذلك أن القرآن أنزله الله تعالى هدى للناس، والهداية نوعان: نظرية وأخرى عملية، وهما دفع المفاسد وجلب المصالح".
"فمقاصد الإسلام إذا اثنين: مقصد سلبي يتمثل في مكافحة الفساد الموجود، ومقصد إيجابي يتمثل في تقديم المقترحات والحلول لتحقيق الصلاح وزيادة مصالح الأمة"، وفق توضيح الدكتور محمد الشتيوي.
وأشار، في هذا الخصوص، إلى الآية عدد 11 من "سورة الرعد": "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وهي نزلت للحديث عن الفساد وصلاح الأنفس، وأن هذا المجتمع لا يمكن أن يكثر فيه الفساد، إلا إذا هم أفسدوا ما في أنفسهم.
"وبالتالي، فإن الإسلام جاء أساسا بمقصد مركزي وهو الاهتمام بالمسألة الاجتماعية، وقد اهتم بها قبل أن تتكون دولة، وبالتالي فإن الإسلام جوهره اجتماعي بالأساس"، وفق تعبيره.
وأضاف أن المقصد الأساسي في الإسلام هو العدالة الاجتماعية، والتغيير الذي جاء به يقع على مستوى السلطة وعلى مستوى الشعب، ومما ساعد على مقبولية دعوة الرسول صل وسلم هو أنه كان نموذجا في المسألة الاجتماعية، وبالتالي فإن الذي سيدعو ويهتم بنشر الإسلام بعده لابد أن يكون هو أيضا في حد ذاته نموذجا يحتذى به في المسألة الاجتماعية لا أن يكون فاسدا أو متطرفا.
ودعا الشتيوي، في هذا الخصوص، الدولة إلى الاهتمام بالجوانب الاجتماعية والالتصاق بحياة الناس، وتطوير العمل الاجتماعي بما يتناسب مع مقتضيات العصر، والنظر إليه على أنه مسألة مركزية وليس ثانوية.
المخرجات:
- ليلة القدر منّة من منن الله تعالى على المسلمين.
- الرسالة المحمديّة أول رسالة موجهة للإنسانية جمعاء وآخرها.
- النبي محمد صل الله عليه وسلم كان النموذج في الجانب الاجتماعي.
- الوحي هداية للإنسان ودعوة إلى الاقتداء بصفات الله تعالى.
- الألوهية في الإسلام أصبحت هي المنبع لمنظومة القيم الراقية كمحاربة الفساد والتطرف.
- جوهر الوحي اجتماعي بالأساس، والنبي محمد كان القائد النموذج في الجانب الاجتماعي.
- التغيير يبدأ من جوهر الإنسان، وإصلاحه في الأرض رسالة من الله تعالى.
- دعوة الدولة إلى الاهتمام بالجانب الاجتماعي وتطويره بما يتناسب مع مقتضيات العصر.
* تقرير